بعد قراءة كتاب «إمام الأتراك» للباحث محمود عبدالرحيم عرفات، وهو كتاب مهم يرد اعتبار هذا القائد التركى العبقرى الذى شوهته أقلام التطرف وتيارات الرجعية واتهمته بالكفر والإلحاد، تنبهت إلى أن سيرة هذا الرجل العظيم هى سيرة العقل فى مواجهة الجهل، سيرة العلم فى مواجهة الخرافة، المهم أن هذا الكتاب نبهنى إلى البحث عن مقالة مهجورة قديمة للمفكر الإسلامى الجزائرى (عبدالحميد بن باديس) مؤسس جمعية العلماء المسلمين بالجزائر، المقال يمتدح أتاتورك ويرثيه بمنتهى الحب والتقدير، وهو بمثابة رد اعتبار آخر سأقتبس لكم منه بعض العبارات.

يقول بن باديس: «فى السابع عشر من رمضان المعظم ختمت أنفاس أعظم رجل عرفته البشرية فى التاريخ الحديث ، وعبقرى من أعظم عباقرة الشرق، الذين يطلعون على العالم فى مختلف الأحقاب، فيحولون مجرى التاريخ ويخلقونه خلقاً جديداً، ذلك هو مصطفى كمال، باعث تركيا وباعث الشرق الإسلامى كله».

ويضيف باديس: «لما انتهت الحرب وخرجت تركيا منها مهشمة مفككة تناولت الدول الغربية أمم الشرق الإسلامى تمتلكها تحت أسماء استعمارية ملطفة، واحتلت عاصمة الخلافة وأصبح الخليفة طوع يدها وتحت تصرفها، وقال الماريشال اللونبى: (اليوم انتهت الحروب الصليبية) فلو لم يخلق الله المعجزة على يد كمال لذهبت تركيا وذهب الشرق الإسلامى معها، لكن كمال الذى جمع تلك الفلول المبعثرة فالتف به إخوانه من أبناء تركيا البررة، نفخ من روحه فى أرض الأناضول حيث الأرومة التركية الكريمة وغيل ذلك الشعب النبيل، وقاوم ذلك الخليفة الأسير وحكومته المتداعية، وشيوخه الدجالين من الداخل، وقهر دول الغرب، وبعث فى الشرق الإسلامى أمله وضرب له المثل العالى فى المقاومة والتضحية فنهض يكافح ويجاهد، فلم يكن مصطفى محيى تركيا وحدها بل محيى الشرق الإسلامى كله، وبهذا غير مجرى التاريخ ووضع للشرق الإسلامى أساس تكوين جديد، فكان بحق من أعظم عباقرة الشرق العظام الذين أثروا فى دين البشرية ودنياها من أقدم عصور التاريخ».

وينهى بن باديس قصيدة مدحه بهذه الكلمات: «إن الإحاطة بنواحى البحث فى شخصية أتاتورك (أبى ترك) مما يقصر عنه الباع ويضيق عنه المجال، ولكننى أرى من المناسب أو من نواحى عظمة مصطفى أتاتورك التى ينقبض لها قلب المسلم ويقف متأسفاً ويكاد يولى مصطفى فى موقفه هذا الملامة كلها حتى يعرف المسؤولين الحقيقيين الذين أوقفوا مصطفى ذلك الموقف، فمن هم هؤلاء المسؤولون؟ هم خليفة المسلمين، شيخ إسلام المسلمين ومن معه من علماء الدين، شيوخ الطرق المتصوفون، الأمم الإسلامية التى كانت تعد السلطان العثمانى خليفة لها، أين هو الإسلام فى هذه (الكليشيات) كلها؟

لقد ثار مصطفى كمال حقيقة ثورة جامحة جارفة ولكنه لم يكن على الإسلام، وإنما ثار على هؤلاء الذين يسمون المسلمين، فألغى الخلافة الزائفة وقطع يد أولئك العلماء عن الحكم فرفض مجلة الأحكام واقتلع شجرة زقوم الطرقية من جذورها، و قال للأمم الإسلامية عليكم أنفسكم وعلىّ نفسى، لا خير لى فى الاتصال بكم ما دمتم على ما أنتم عليه، أما الإسلام فقد ترجم القرآن لأمته التركية بلغتها لتأخذ الإسلام من معدنه، وتستقيه من نبعه، ومكنها من إقامة شعائره فكانت مظاهر الإسلام فى مساجده، ومواسمه تتزايد فى الظهور عاماً بعد عام حتى كان المظهر الإسلامى العظيم يوم دفنه والصلاة عليه تغمده الله برحمته».